سرطان.. سخرة.. فصل تعسفي
معسكرات «عبيد» بورسعيد.. عفواً «منطقة الاستثمار الحرة»
ما أن تدخل منطقة استثمار بورسعيد الحرة، حتي تسمع من المحيطين كلهم قصة «عبدالرحمن» الذي لم يتعد عمره 18 عاماً ونال أقسي صنوف الضرب لاعتراضه علي خصم 3 أيام من راتبه بسبب ذهابه لدورة المياه، حتي فقد وعيه ولما ظن صاحب الشركة هو ومن ضربوه أنه مات، ألقوا به من أعلي الطابق الثالث وقالوا إنه انتحر لكن تدخل العناية الإلهية أنقذه من موت محقق ليفضحهم.
وليست قصة عبدالرحمن الدليل الوحيد أو المظهر الوحيد لسوء المعاملة التي يلقاها العمال في هذه المنطقة التي تحتوي علي 64 مصنعاً تضم حوالي 40 ألف عامل وتعول عليها الحكومة كثيراً في توفير فرص عمل لأبناء هذا الوطن فهناك مظاهر أخري كثيرة تبدأ بالأمراض السرطانية وانعدام التأمين الصحي ونهب أجر الإضافي أو العمل بالسخرة ولا تنتهي أبداً بالفصل التعسفي.
لائحة الجمعية
أول ما يشغل البال في مثل هذه المناطق الصناعية الجديدة هو السؤال عن منظم العمل أو من يلعب دور الحكم في علاقة العمال بأصحاب رؤوس الأموال؟
والإجابة ببساطة تكمن في أن المنطقة لا تخضع لقانون العمل رقم 12 لسنة 2003 إنما تخضع للائحة موضوعة من قبل «جمعية المستثمرين»
.يقول البدري فرغلي عضو مجلس الشعب السابق عن دائرة بورفؤاد والشرق: إن لائحة العمل الخاصة بجمعية المستثمرين والموضوعة بتواطؤ مع مكتب العمل ووزارة القوي العاملة، هدفها بالأساس هو التنكيل بالعمال واستغلال أكبر قدر ممكن من عملهم وإنتاجهم، فشروط العمل بهذه اللائحة وبنودها مجحفة للغاية ومثلاً في عقد العمل ـ وهو لا يسلم لكل العمال ـ لا نجد تحديداً للأجر الأساسي لطبيعة العمل أو حتي لساعات العمل وهو ما يجعل حقوق العمال في كل المصانع مستباحة بلا رقيب.
ويضيف: مثلاً في مصنع «ترانس أفريقيا» نجد أن ساعات العمل الأساسية تتجاوز 9 ساعات يتخللها نصف ساعة فقط راحة لكننا لا نندهش أبداً من ذلك خصوصاً أن هذه الشركة هي ملك «محمود عبود» رئيس جمعية المستثمرين وأول من وقع علي اتفاقية الكويز في مصر.
ويشدد علي أن الأكثر غرابة هو «شهادة عدم الممانعة» ومغزاها أن أي عامل عند تركه للعمل فإنه لم يتركه بسبب امتناعه عن العمل وهي أيضاً تعتبر شهادة من صاحب العمل بأنه عامل كفء وغير مثير للمشاكل.. وهي التي لا يحصل عليها أي عامل عند تركه للعمل أو عند فصله فيكون مضطراً للانتظار دون عمل ودون دخل لمدة تزيد علي 6 أشهر حتي يسقط اسمه من كشوف الجمعية.
وعموماً فمتوسط أجر العامل في المنطقة الصناعية حوالي 350 جنيهاً شهرياً وقد يرتفع في بعض الأحيان ليصل لحوالي 600 جنيه بالنسبة لمن تتجاوز خبرته عشرين سنة يقول محمد أحد عمال المنطقة «أنا باشتغل في قسم الدمالة في مصنع ملابس جاهزة وباخد 900 جنيه وده يعتبر مرتب كبير لكن في الوقت نفسه أنا باشتغل في مواد خطيرة ومعانا عمال كثير عندهم ربو رئوي وناس جالها سرطان يعني الفلوس اللي بيدهالي باخدها عشان أصرف بيها علي المرض وكمان ما فيش كمامة نلبسها في الشغل، وده في الوقت اللي بيكسب أصحاب المصانع مليارات من الأرباح مستفيدين من مهارة العمالة ومن المنطقة الحرة.
العمالة الأجنبية
ويضيف: توجد فجوة ضخمة بين العمالة المصرية والأجنبية، فبحسب أي تعاقد بين أي شركة ومصدر أجنبي فإن المصدر يشترط وجود 2% من قوة العمالة من بلده.يقول تامر مبروك «العمال الأجانب بيتحاسبوا» بالدولار بقيمته الحقيقية والمصريون لسه بيتحاسبوا علي أساس سعر الدولار بـ 3.40 جنيه كما في قانون المنطقة الحرة وهذا إضافة إلي نهب أجر العمل الإضافي وإجبارنا علي القيام به دون مقابل وأحياناً تتعدي ساعات العمل 10 ساعات.
توضح «ف.ج» عاملة بشركة ملابس جاهزة: أنا باخد في الشهر 500 جنيه لكن طول الوقت بيخلونا نسهر للساعة 9 والساعة 10 يعني زيادة 3 أو 4 ساعات دون مقابل بحجة أن الشغل ده استكمال إنتاج كما تستخدم الأجور كأحد أساليب استغلال أكبر قدر ممكن من عمل العمال فسياسة رجال الأعمال الآن هي صرف الأجور يوم 5 في كل شهر وإذا أراد عامل أن يترك عمله يضطر للانتظار لليوم الخامس من كل شهر ليحصل علي أجره فيكون صاحب العمل قد استفاد من عمل العمال 5 أيام زيادة من الشهر وتأكيداً علي ذلك أصبحت الإدارات تصرف الأجور في الخامس من كل شهر ومقابل العمل الإضافي ـ إن وجد ـ في الخامس عشر من كل شر وهو ما يعني أن صاحب العمل يستسفيد من عمله لمدة 15 يوماً دون أجر إذا ترك العمل.
يشير «أ.ع» عامل بالشركة نفسها إلي أنه لما يكون في عامل عاوز يسيب الشغل بيضطر يقعد لحد ما يقبض الأوفرتايم في نصف الشهر، وإذا أخد شهادة عدم الممانعة فيضطر يقعد في الشارع 15 يوماً لحد أول الشهر عشان يلاقي شغل تاني.
لا تتوقف مشاكل هؤلاء العمال عند هذا فقط بل يأتي التأمين الصحي ليفجر أوهام الدولة بخصوص 40 ألف عامل حيث لا يوجد مكتب تأمينات مخصص لهم أو نقطة إسعاف لنجدة البشر المعرضين باستمرار للأخطار والإصابات الصناعية.
بلا تأمين
يقول محمد فوزي أحد عمال المنطقة «مفيش تأمين في المنطقة خالص واللي بيحاول يتكلم عنه بياخد استمارة «6» اللي هو ماضي عليها قبل ما يتسلم شغله، وإذا حد تعب علي ما تيجي عربية الإسعاف تاخده للمستشفي اللي ممكن ما تقبلوش بيكون انتهي.
لا يقف سوء الخدمة الصعبة عند هذا الحد فالكابوس الأكبر يكون عند وصولك للتأمين الصحي يضيف: رحت أكشف رمد في التأمين الدكتور جه الساعة 12 بص لي ومن غير ما يكشف عليه كتب روشتة ومشانا بعدها علشان هو بيمشي الساعة واحدة ونصف ولقيت الدواء اللي كاتبهولي مكتوب لكل الناس فطبعاً ما أخدتوش.
لا يمنع كل هذا أن يحصل صاحب رأس المال علي قسط التأمين من العمال غير المؤمن عليهم أصلاً يقول ط.م «أنا كنت باشتغل في شركة صاحبها مساعد رئيس جمعية المستثمرين ومرة تعبت ورحت التأمين اكتشفت أني مش متأمن عليا وأنا كنت بادفع التأمينات لمدة سنتين وبعد كده اكتشفنا إن فيه 3800 عامل مش متأمن عليهم وهو الكلام نفسه الذي أكد عليه محمد عبدالمنعم العامل بشركة إيميكو للإضاءة حيث أصيب في حادث عمل فقد فيه 3 أصابع من يده ولم يجد له اسماً في التأمينات.هذه الأوضاع لا تعبر عن كل الصورة بالمنطقة الاستثمارية فنجد مثلاً الفصل التعسفي يسري في هذه المصانع فاستمارة 6 أو قرار الفصل يوقع عليه العمال قبل توقيعهم علي عقد العمل كما تعطي لائحة جمعية المستثمرين تسهيلات بالجملة لرجال الأعمال لفصل أي عدد من العمال يقول هاني الجبالي محامي جمعية مساواة لحقوق الإنسان «إن اللائحة وضعها رجال الأعمال لأنفسم لتخدم مصالحهم وتسهل عليهم تصفية أي عدد من العمال، تخدم هذه اللائحة رجال الأعمال لأقصي حد حيث يمكن أن يتخلصوا من أي مصدر إزعاج لهم، وهنا تحضرني حادثة عمال من أجل التغيير في يوم 23 فبراير 2005 عندما قاموا بتوزيع بيان دعوا فيه لوقفة احتجاجية مطالبين بحقوق العمال في إنشاء لجان نقابية وإلغاء تقرير عدم الممانعة وإنشاء نقطة إسعاف داخل المنطقة وإجراء تحقيق حول القماش الإسرائيلي الذي تسبب في إصابة العمال بالحصبة الألماني التي تسبب إجهاض الحوامل ورداً علي هذا البيان قامت أمن الدولة بالقبض علي ثمانية أعضاء من الحركة وفصل 3 عمال من مصنع اللوتس للملابس الجاهزة وأصدرت جمعية المستثمرين قراراً بمنع دخول هؤلاء العمال للمنطقة نهائياً، يقول تامر مبروك «عندما وزعنا البيان قبضوا علينا أنا وشقيقي وزوجتي وتعدي أفراد أمن الدولة علينا ثم صدر قرار فصلنا وعندما رفعنا قضية ضد الإدارة حكمت المحكمة لنا وقال القاضي إن الرأي السياسي وحده لا يعد مبرراً للفصل وحتي الآن لم تنفذ هذه الأحكام».
الأمراض تغزوهم
إلي ذلك فإن ظروف العمل تنضح بالإهمال الصناعي وانعدام الصحة المهنية مثلاً عمال أقسام «الدمالي» الذين يعملون بمواد كيماوية خطرة لا يجدون كمامة واقية وأحياناً تصرف الكمامات بالمحسوبية.
ويؤكد كثيرون أن عمال إحدي الشركات تنتشر بينهم أمراض السرطان الجلدي والذبحة الصدرية غير ذلك أن كل العمال الذين يعانون من هذه الأمراض يعالجون علي حسابهم الشخصي فمن يكتشف أنه غير مؤمن عليه ومن يؤمن عليه فإنه يكتشف أن الأمراض تزداد في التأمين الصحي لا تعالج.
تقول «ع.ج» إحنا ما عندناش أمن صناعي مفيش كمامات ولا وجبة لبن ولا أي وسائل أمن وسلامة عندنا زمايل كثير عندهم حساسية صدر وحصبة ألمانية وبياخدوا الإجازة علي حسابهم
وكمان بيتعالجوا علي حسابهم.هذا وتعتبر هذه الأوضاع رحمة بالنسبة للعمالة اليومية وعمالة الأحداث، أمام الأحياء الكبيرة ببورسعيد تجد العشرات والمئات قبل بزوغ الشمس ينتظرون مقاول الأنفار يأتي ليختار أكبرهم حجماً وأقواهم صحية ليعمل لمدة تتعدي الاثنتي عشرة ساعة دون راحة بالمرة ويكون مقابل هذه السخرة أجر يومي لا يتجاوز ـ في أفضل أحواله ـ 13 أو 14 جنيهاً علاوة علي أوضاعهم الصحية المزرية وحقوقهم المهدرة.يقول المحامي هاني الجبالي: العمالة اليومية والمؤقتة والأحداث لا يملكون عقوداً ولا يؤمن عليهم ولا تنطبق عليهم أبسط قواعد الأمن والسلامة المهنية ويتركز هذا النوع من العمالة بشركة المواد المنظفة الكبيرة وشركات الملابس خصوصاً الأقسام التي تستخدم الكيماويات في عملها وهي أقسام غير مصرح بوجود كانتين بها، ونظراً لأن هؤلاء العمال يعملون لمدة تتعدي 12 ساعة فإنهم يضطرون لتخبئة طعامهم في براميل المساحيق والمواد الكيماوية.. وبالطبع فإن موقف رجال الأعمال من هذه العمالة يكون الإنكار والتنصل من تشغيل هذه العمالة وهو ما أكد عليه ط.م عضو عمال من أجل التغيير «هذه عمالة يومية وبهم من يصل عمره لـ 12، 14 سنة وعندما تأتي زيارات للمصانع فإن أصحاب المصنع يقومون بتخبئة هذه العمالة في أي مكان حتي تنتهي الزيارة. 40 ألف عامل
كل هذه الأوضاع التي يعاني منها 40 ألف عامل غير العمالة اليومية وغير المسجلة تأتي في ظل انعدام وجود أي لجنة نقابية بأي مصنع من هذه المصانع في مقابل جمعية للمستثمرين مهمتها سن اللوائح لصالح المستثمرين وتحقيق أقصي أرباح لهم وتسهيل انتقال المواد الخام من وإلي المنطقة وتأتي في ظل اختفاء أي جهة سياسية أو نقابية للدفاع عن حقوقهم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق